كان مشهوراً بلقب الأثري، وله كتاب قيم اسمه [العين والأثر في عقائد أهل الأثر] طبع بدار المأمون للتراث، وحقق أيضاً كرسالة جامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود، قال فيه رحمه الله (ص35-36 من المطبوع) : يحرم تأويل ما يتعلق به تعالى وتفسيره، كآية الاستواء وحديث النزول وغير ذلك من آيات الصفات إلا بصادر من النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض الصحابة وهذا مذهب السلف قاطبة، فلا نقول في التنزيه كقول المعطلة، بل نثبت ولا نحرّف، ونصف ولا نكيّف، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فمذهبنا حق بين باطلين وهدى بين ضلالتين، وهو: إثبات الأسماء والصفات، مع نفي التشبيه والأدوات
وقال رحمه الله (ص59-63) : المقصد الثاني: في مسائل وقع فيها الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة
منها: أننا نؤمن بأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه من غير تأويل، فعن أم سلمة رضي الله عنها . . .
ومنها نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبت الحنابلة ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله تعالى.
وكذلك ما أنزل الله عز وجل في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله تعالى: “وجاء ربك والملك صفاً صفاً” الآية، وفي قوله: “هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام” الآية، ونؤمن بذلك بلا كيف، فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل، فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه . . . وسيأتي في التتمة الخامسة ذكر كلام الإمام الأشعري وأنه موافق للإمام أحمد في الاعتقاد وأنه يجري المتشابهات على ما قاله الله من غير تصرف ولا تأويل، كما هو عليه مذهب السلف، وعليه فلا خلاف ولا نزاع والحمد لله
فصل: في اعتقاد الحنابلة جملة لمذهب السلف
قال الإمام عبد الباقي البعلي الحنبلي في العين والأثر (ص59) : وللكلام على المقصد الثاني تقدمة، وهي أن طوائف أهل السنة ثلاثة: أشاعرة وحنابلة وماتريدية، بدليل عطف علماء الحنابلة على الأشاعرة في كثير من الكتب الكلامية؛ وجميع كتب الحنابلة، والعطف يقتضي المغايرة! وكيف يصح إدخال الحنابلة في الأشاعرة ؟ مع أنه قد ذكر ابن السبكي في طبقات الشافعية أن الشيخ أبا الحسن الأشعري ولد سنة ستين ومائتين بعد وفاة الإمام أحمد بعشرين سنة، فكيف يصح نسبة الإمام أحمد إلى اعتقادهم !؟ مع أنهم منذ زمن الإمام أحمد إلى زماننا هذا لم يزالوا على اعتقاد إمامهم الذي هو معتقد السلف – كبقية الأئمة الأربعة- من حيث تسليم آيات الصفات وعدم تأويلها، ألا ترى إلى جواب مالك لما سئل عن الاستواء؟
قلت: كلمة الإمام عبد الباقي الذهبية أن الحنابلة ما زالوا على اعتقاد إمامهم مذ كانوا حتى وقته؛ بل وبعده أيضاً.
فأما قبله فهذا نموذج من علماء الحنابلة وهو مرعي بن يوسف الكرمي، له كتاب [أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات] سار فيه على مذهب السلف جملة، وله [الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية]، و[الكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية]
وقبله: أحمد بن أسعد التنوخي، له كتاب [العقيدة] نظم في نحو سبعمائة بيت على طريقة السلف كما قال النجم الغزي، وقبل ذلك أتباع مدرسة ابن تيمية، فهم كثرة كاثرة.
ويناسب هنا إيراد كلام العلامة حمد بن ناصر بن معمر الحنبلي ضمن الدرر السنية، فبعد أن أسهب جداً في نقل أقوال العلماء في مسألة الصفات -وغالبه من اجتماع الجيوش الإسلامية، قال (12/156): وقد أضربنا عن كلام الحنابلة صفحاً، فلم ننقل منه إلا اليسير، لأنه قد اشتهر عنهم إثبات الصفات ونفي التكييفات، فمذهبهم بين الناس مشهور، وفي كتبهم مسطور، وكلامهم في هذا الباب أشهر من أن يُذكر، وأكثر من أن يسطّر، ولهذا كان أهل البدع يسمّونهم الحشوية، لأنهم قد أبطلوا التأويل، واتبعوا ظاهر التنزيل، وخالفوا أهل البدع والتأويل
وقال بعده الإمام محمد بن ناصر الحازمي الأثري بعد أن نقل جملة كبيرة من أقوال الأئمة في إثبات العلو لله تعالى في كتاب الصفات (ص124) : وفيما نقلناه من كلام الأئمة خير كثير، ولو تتبعنا كلام العلماء في هذا الباب لحصل منه مجلد كبير، وقد أضربنا عن كلام الحنابلة صفحاً فلم ننقل عنهم إلا اليسير، لأنه قد اشتهر عنهم إثبات الصفات ونفي التكييفات.. فذكر مثله.
وممن نص على ذلك من متقدمي الحنابلة ابن أبي يعلى في مسائل أصول الديانات من [كتاب الروايتين والوجهين] فقال (ص46) : مسألة: لا يختلف أصحابنا أن الله تعالى مستوٍ على عرشه، كما أخبر في كتابه، فقال تعالى: “ثم استوى على العرش”، وقال: “الرحمن على العرش استوى”، وغير ذلك
وقال ابن أبي يعلى (ص52) : مسألة: لا يختلف أصحابنا أن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم
أعود فأقول : أما ثبات الحنابلة على عقيدة الإمام أحمد بعد عبد الباقي البعلي أيضاً فيؤيده آثارهم الاعتقادية، فهذا محمد السفاريني الحنبلي له [الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية]، ثم شرحها في [لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية]، وله [لواقح الأفكار السنية شرح منظومة ابن أبي داود الحائية]، وكلها في عقيدة أهل الأثر، وشرح [مختصر الدرة المضية] العلامة حسن بن عمر الشطي.
وكذلك عبد الله بن صوفان القدّومي الحنبلي قال عنه الكتاني: [الحنبلي الأثري مذهباً .. أعلم من لقيناه من الحنابلة، وأشدهم تمسكاً بتعاليم السلف]، وله مصنّف اسمه: [المنهج الأحمد في درء المثالب التي تنمى لمذهب الإمام أحمد]، وله رسالة في الاعتقاد بعنوان [طوالع الأنوار البهيّة]
وكذلك عبد القادر بدران الدومي الأثري، ومن المعاصرين المؤرخ الداعية إحسان نجيب نمر النابلسي وقد نُص في ترجمته أنه كان سلفي النزعة وهابياً ! [المستدرك على تتمة الأعلام(3/125).]
وغيرهم كثير من حنابلة الشاميين، حتى من لم يؤلف منهم في الاعتقاد خاصة يستبان موقفه منها صراحة، كما صنع عبد الحي ابن العماد العكري في تراجم مجددي آثار السلف في [شذرات الذهب]، كابن تيمية ومدرسته، وكما تجد اعتماد الفقهاء الحنابلة على ابن تيمية ومدرسته وإذا ذكر كثيراً ما يوصف بشيخ الإسلام، ومعلوم أن حبه وتقديره محنة، ولا سيما في تلك الحقبة حيث تسلط الجهلة من مخالفي مذهبه على آثاره، ولم يدخروا وسعاً في إتلاف كتبه ومحاربة أفكاره، بل نجد المحدث البرهان الناجي لقب بذلك لتحوله عن المذهب الحنبلي !!
وأما حديثاً فقد ذكر الشيخ العلامة محمد بن سليمان الأشقر في ترجمة عبد الغني بن ياسين اللبدي النابلسي: [وهو كأغلب العلماء الحنابلة: يتبع في العقائد عقيدة السلف التي عمل علماء السلف لتثبيتها، وجاهد الإمام أحمد لتأسيسها وتقعيدها، ثم تابع أصحابه بعده تشييد أركانها، وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم]، (مقدمة تحقيق حاشية اللبدي على نيل المآرب، وذكر أيضاً أنه له [عقيدة] مخطوطة
قلت: وقصبة الحنابلة اليوم في الشام مدينة (دوما) غالب حنابلتها سلفيون.
هذا عن الشاميين خاصة، ومثلهم في الجملة حنابلة أطراف العراق المتأخرين، مثل الزبير والكويت.
فها هو علامة الزبير عبد الله بن عبد الرحمن الحمود صاحب الفتاوى الزبيرية والملقب بمفتي الديار الزبيرية، وإمام جامعها وخطيبه، قد نص تلميذه الشيخ إبراهيم بن محمد المبيض الزبيري أن شيخه [كان سليم العقيدة، يرى بيع ما وُقف على قبرٍ محاربة منه للشرك والبدع]، (مقدمة الفتاوى الزبيرية ص38)، وقال أيضاً إنه كان يُقرأ عليه [مختلف كتب العقيدة والتوحيد، ككتاب الدرة المضيئة للسفاريني، التي شرحها أحد أساتذة مدرسة الدويحس -مدرسة شهيرة بالزبير، درس بها الحمود- ألا وهو الشيخ محمد بن علي بن سلوم رحمه الله، وهي مطبوعة] (نفسه ص39)
أما الكويت فعلامتها عبد الله بن خلف الدحيان وتلاميذه ومدرستهم من بعدهم كلهم سلفيون معروفون، وانظر للاسترواح مقدمة الشيخ محمد بن ناصر العجمي على روضة الأفراح (مثلا: في ص80 كتب محمد بن عبد الله بن محمد الفارس الكويتي بعد اسمه بخطه: ..والسلفي اعتقاداً والحنبلي مذهباً)
وأما النجديون فلا حاجة للكتابة حول انتهاجهم لمذهب السلف أصحاب الحديث، ولكن ممن ألف رسالة أو عقيدة قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب هناك عبد العزيز بن عبد الرحمن الرزيني له نظم العقيدة الواسطية، قال عنها ابن بسام: [وهو نظم حسن عذب نهج فيه نهج السلف الصالح في الصفات وأفعال العباد] (علماء نجد 3/407)
وقبله ألف عثمان بن أحمد بن قائد النجدي رسائله: [نجاة الخلف في اعتقاد السلف]، [والتوحيد]، و[مختصر النونية لابن القيم]
بل حتى من كان يعارض دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض المسائل من أهل نجد -وممن يفرح أهل البدع بذكر أسمائهم للنيل من الشيخ- كانوا في باب الصفات على اعتقاد الإمام أحمد والسلف ومرجعهم في ذلك كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
ولذلك تجد الحنابلة يقومون على من يشذ عن مذهب إمامهم ويقوّمون اعوجاج من ينحرف عنه، فأخذوا على أبي يعلى وابن حامد ما نزعا إليه من الغلو في الإثبات بغير وارد عن السلف، كما وبخوا ابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي لخروجهم إلى ضرب من التجهم والاعتزال، وأخبارهم في ذلك معروفة مشهورة.
__________
المصدر: البيان والتبيين للأسانيد المسلسلة بالسلفيين