لم يتعرض الإمام الثعلبي رحمه الله لبيان اعتقاده في مؤلف خاص كما جرت به عادة بعض المتقدمين، إلا أنه من خلال تفسيره لكلام الله عز وجل كان لزامًا عليه أن يتعرض للكثير من المباحث العقدية ويبين عن رأيه فيها.
وليس بوسعنا في هذا المقام أن نعرض لجميع المواطن التي ناقش الثعلبي فيها مباحث عقدية وإن كان هذا الأمر مهمًا لمن أراد أن يصدر عن رأي دقيق وتفصيلي حول منهج هذا الإمام في إثبات مسائل العقيدة.
ولكن حسبنا في مثل هذِه العجالة أن نعرض لبعض المواضع التي عبر فيها المصنف عن آرائه حول بعض مسائل الاعتقاد التي تلقي الضوء على المنهج العام الذي سار عليه المصنف رحمه الله في تناول مسائل العقيدة، فنقول وبالله التوفيق:
إن المتأمل لتفسير أبي إسحاق يجد أنه تعرض من خلاله لكثير من مباحث العقيدة المتنوعة، فقد تعرض لمسائل الإيمان، والقدر، واليوم الآخر، والنبوات، والتوحيد وغيرها من المباحث.
وكان في أكثر هذِه المباحث مُبينًا عن الحق بدليله، ذابًّا عن منهج أهل السنة والجماعة، رادًّا على الفرق الضالة والمنحرفة
فنجده يعرض عند تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} للإيمان وحقيقته، ويعقد لذلك فصلًا يقرر فيه أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة مؤلف من القول والاعتقاد والعمل، واستدل لذلك بأحاديث أخرجها بسنده.
ثم هو عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} [التوبة: 124]، نجده يبين عن مذهب أهل السنة والجماعة القائلين بزيادة الإيمان ونقصانه، فنجده يسوق في ذلك الآثار فيقول: قال مجاهد في هذِه الآية: الإيمان يزيد وينقص، وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: لو وزن إيمان أبي بكر – رضي الله عنه – بإيمان أهل الأرض لرجحهم، بلي إن الإيمان ليزيد وينقص. قالها ثلاث مرات.
وروى زبيد اليامي عن ذر قال: كان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: تعالوا حتى نزداد إيمانا.
قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب كلما ازداد الإيمان عظما ازداد البياض حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب فكلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد حتى يسود القلب كله. وايم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود.
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان سننًا وشرائع وحدودًا وفرائض من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
وقال ابن المبارك: لم أجد بُدًّا من الإقرار بزيادة الإيمان أو أردَّ كتاب الله تعالى.
ونجد المصنف رحمه الله عند قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]، يذكر أقوال الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، ثم يرد عليهم. ثم يبين العقيدة الصحيحة في هذِه المسألة بقوله: وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمنًا متعمدًا فإنه لا يكفر بقتله، ولا يخرج به عن الإيمان إلا إذا فعل ذلك على جهة الاستحلال والديانة. وذكر الأدلة على هذا.
وهذا القول الذي قرره هو قول أهل السنة والجماعة.
وكذلك نجد الثعلبي يقرِّر العقيدة الصحيحة في مسألة رؤية الله عز وجل في الآخرة عند قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، فيثبت الرؤية كما أثبتها أهل السنة والجماعة، مستدلًا على ذلك بنصوص الكتاب والسنة. خلافًا لما ذهب إليه المعتزلة إذ نفوا هذِه الرؤية.
وها هو يستفتح تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} بإسناده لحديث أنس – رضي الله عنه – في تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – للزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم، ويبين أن ذلك هو قول أبي بكر وحذيفة وأبي موسى
وصهيب وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن سابط والحسن وعكرمة وأبي الجوزاء والضحاك والسدي وعطاء ومقاتل، ثم يردف ذلك ببعض الآثار المسندة الدالة على ذلك.
وفي مقابل هذا التقرير الموفق لمنهج أهل السنة والجماعة في هذِه المباحث نجده قد خالف هذا المنهج في مسألة إثبات الصفات، فقد سلك في تقرير الصفات مسلك الأشاعرة الذين يقوم مذهبهم على إثبات صفات المعاني، وتأويل الصفات الخبرية كاليد والوجه والمحبة والكره وغيرها.
ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن المصنف قد تتلمذ على أعلام
المذهب الأشعري أمثال ابن فورك وأبي إسحاق الإسفراييني وغيرهما، مما كان له بالغ الأثر في آراء أبي إسحاق الاعتقادية خاصة ما يتعلق بالصفات، وقد أظهر مذهبه هذا، ونافح عنه، وهاجم خصومه.
ومن الأمثلة على ذلك (1):
1 – تأويل صفة الرحمة: في قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: إذ ذكر الثعلبي قولين في صفة الرحمة، قال: والرحمة: إرادة الله الخير لأهله، وهي على هذا القول صفة ذات.
وقيل: هي ترك عقوبة من استحق العقوبة، وابتداء الخير على من لا يستحق، وعلي هذا القول صفة فعل.
وهكذا سلك الثعلبي مسلك التأويل، فقام بصرف الآية عن معناها الظاهر.
والحق في هذا الباب أن الآية دلت على أن الرحمة من صفات الله جل شأنه، فنثبت صفة الرحمة له سبحانه على ما يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2).
2 – تأويل صفة الغضب:
لما فسَّر الثعلبي قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} قال: واختلفوا في معنى الغضب من الله عز وجل
فقال قوم: هو إرادة الله الانتقام من العصاة.
وقيل: هو جنس من العقاب يضاد الرضا.
وقيل: هو ذم العصاة على قبيح أفعالهم.
والحق في هذا المقام أن يقال: إن الآية دلت على أن الله جل شأنه من صفاته الغضب؛ فنثبت صفة الغضب لله سبحانه على ما يليق بجلاله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل.
3 – تفسير الإله بالقادر على الاختراع:
فقد قال عند تفسير لفظ الجلالة: وقال قوم: إلهيته من صفات ذاته، وهي قدرته على الاختراع.
وتفسير الإله، بالقادر على الاختراع، هو منهج المتكلمين، كما حكاه عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولذا ذكر الواحدي في “البسيط” هذا القول وقال: وعند متكلمي أصحابنا: أن الإله من له الإلهية، والإلهية القدرة على اختراع الأعيان (1).
4 – نفي صفة الإتيان والمجيء لله عز وجل:
عند قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] نراه يحاول تأويل الآية بتقدير أن (في) بمعنى الباء، ثم قال: وعلى هذا التأويل زال الإشكال، وسهل الأمر. ثم ذكر قول أبي الحسن الأشعري دون التصريح باسمه، ومال إليه، فقال: وقالت
طائفة من أهل الحقائق: إن الله -عز وجل- يحدث فعلًا يسميه إتيانًا؛ كما أحدث فعلًا سماه نزولًا بلا آلة ولا علة. ثم يذكر قولًا من اختياره إذ قال: ويحتمل أن يكون معنى الإتيان هاهنا راجعًا إلى الجزاء، فسمى الجزاء إتيانا كما سمى التخريب، والتعذيب في قصة نمرود إتيانًا. ثم يخلص إلى قول جمع فيه بين رأيه الأخير وقول أبي الحسن، قال: فمعنى الآية: هل ينظرون إلا أن يظهر الله -عز وجل- فعلًا من أفعاله مع خلق من خلقه، فيقصد إلى مجازاتهم (1).
ولا شك أن هذا تأويل فاسد بعيد، فيه نفي لصفة الإتيان والمجيء لله -سبحانه وتعالى- بما يليق بجلاله وعظمته.
ومن الأمثلة الأخرى أيضًا:
عند قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] قال: قال أهل المعاني: فيه إضمار، كأنه قال: فقل لهم؛ أو فأعلمهم (أني قريب) منهم بالعلم.
وهو يطلق بعض الألفاظ العقلية التي يكثر من إطلاقها الأشاعرة مثل: متمكن، متناهي، محدود، التي لم ترد في القرآن الكريم، ولا السنة المطهرة، ولا عن أحد من السلف الصالح.
وهناك جوانب أخرى تتعلق بعقيدة المصنف ستأتي إن شاء الله عند الكلام عن منهجه في تقرير مسائل العقيدة والرد على الفرق، والكلام
عن التفسير الصوفي الإشاري، وموقف الثعلبي منه ومنهم عند الحديث عن منهج المصنف في كتابه.
ونخلص من ذلك إلى أن المصنف رحمه الله، وإن كان في غالب أبواب الاعتقاد على مذهب أهل السنة عمومًا إلا أنه في مسائل الصفات كان مؤولًا على طريقة الأشاعرة، لذا يصدق عليه وصف أبي العباس ابن تيمية حين قال: (الثعلبي فيه سلامة من البدع، وإن ذكرها تقليدًا لغيره)