هو أبو الفتوح عبد الله بن عبد القادر بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد السلام التليدي الجرفطي.
بقرية الصاف من قبيلة بني جرفط سنة 1347هـ، هاجر به والده مع باقي أفراد أسرته إلى مدينة طنجة وسنه دون العاشرة، وحفظ القرآن الكريم وهو غلام لم يناهز الاحتلام، على الشيخ عبد السلام الشقاف وأتم حفظه وتصحيحه على جماعة من المقرئين، ثم ذهب إلى قرية (امجازليين) وقرأ عددا من المتون.
ثم التحق بمعهد طنجة الديني، في سن العشرين فلازم علماء طنجة والطارئين عليها مدة ثمان سنوات، فقرأ على الشيخ عبد السلام الخنوس: الأجرومية، ألفية ابن مالك ومرشد ابن عاشر مرارا، رسالة ابي زيد، ابن بري في قراءة نافع، بعض الشاطبية وهمزية البوصيري، مقدمة جمع الجوامع في أصول الفقه، لامية الأفعال، والمنطق.
وعلى عبد الله بن عبد الصادق التمسماني: ألفية ابن مالك، نور اليقين، تحفة الحام ورسالة ابن أبي زيد، جمع الجوامع ومختصر الشيخ خليل بالشرح الصغير للدردير في الفقه المالكي. وعلى عبد الحفيظ كنون: السنوسية في التوحيد، ورسالة ابن أبي زيد مرتين ومختصر ابن أبي جمرة وسنن ابن ماجه إلى النكاح وبعض صحيح البخاري وعلى الحسن اللمتوني: ألفية النحو مرارا.وعلى عبد الله كنون: ورقات إمام الحرمين. وعلى محمد الساحلي الوسيني: توحيد ابن عاشر ورسالة ابن أبي زيد وجملة من التفسير.
وفي سنة 1370 توجه إلى فاس حيث جامع القرويين، فقرأ على كبار علمائها كعبد العزيز بن الخياط، والعباس بناني، وإدريس العراقي. ولم تدم إقامته بفاس طويلاً بسبب الأوضاع غير المستقرة في المنطقة من إثر الاحتلال الاحتلال الإسباني و الاحتلال الفرنسي، فعاد لبلده، فبدأ يحضر من جديد دروس شيوخه: مثل المختار الحساني، وجدنا أبي علي محمد المنتصر الكتاني، فأخذ عنه مصطلح الحديث بالبيقونية ومقدمة ابن الصلاح.
وفي سنة 1372 ابتدأ عهده الثاني، عهد المدرسة الصديقية، فقرأ على شيخنا أبي اليسر عبد العزيز بن الصديق، الذي درس عليه سنن الترمذي، ألفية العراقي في علم الحديث، نخبة الفكر، تفسير الجلالين إلى سورة هود وغيرها.
وعلى شيخنا عبد الحي بن الصديق: نخبة الفكر، مفتاح الوصول، وجزء من “سبل السلام” في فقه الحديث، و”الجوهر المكنون” في البلاغة. وعلى محمد الزمزمي بن الصديق: “بلوغ المرام” وطرفا من “لب الأصول”.
أما أكثر من أثر فيه فهو أبو الفيض أحمد بن الصديق، الذي لازمه وأخذ عنه واختص به، حتى فتن بحبه. فاقتدى به في ترك التقليد المذهبي والأخذ بالأثر مباشرة، وفي الاعتقاد ترك المذهب الأشعري، وتأثر بكتب أهل الحديث، كما أنه تأثر بتشيع ابن الصديق بقوة.
يقول شيخنا، رحمه الله، عن نفسه : “كان في بداية أمره على مذهب الأشاعرة المتأخرين الذين مزجوا عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى الحقة ببعض عقائد المعتزلة، لكنه كان له ميل إلى مذهب السلف لقراءته أيام الطلب رسالة ابن أبي زيد القيرواني مرارا، وعقيدته المذكورة في رسالته سلفية محضة.ولما اتصل بشيخه الحافظ أبي الفيض رحمه الله تعالى أعطاه كتاب “التوحيد”لابن خزيمة و”الاعتقاد”للبيهقي و”اجتماع الجيوش الاسلامية”,و”الإبانة”للأشعري و”الطحاوية” و”لمعة الاعتقاد” خرج من قراءتها كلها باعتناق مذهب السلف، فأصبحت بفضل الله تعالى عقيدته سلفية محضة، وزاد تمكنا في ذلك بعد أن قرأ كثيرا من كتب التفسير وشروح الحديث التي تتعرض لمذهب السلف والخلف. وهو ينصح أهل العلم بقراءة عقيدة ابن أبي زيد القيرواني و”العقيدة الطحاوية و”الاعتقاد”للبيهقي و”الإبانة”للأشعري … رحمهم الله تعالى”. من “ذكريات من حياتي” (ص 96).
ثم عاد بعد ذلك لطنجة و أسس مدرسته العتيقة بمرشان ” معهد ابن القطان” ، فدرَّس فيها كتبا كثيرة في مختلف العلوم والفنون، وتخرج عليه أمم من العلماء والفقهاء والدعاة وحفظة القرآن الكريم، وكان يقوم بالإمامة والخطابة والتدريس في مختلف العلوم الشرعية.
واختيار الشيخ التليدي حفظه الله تعالى العزلة هو اختيار اختاره وله فيه سلف، ومعه أدلة، كما أن من اختار المشاركة والمخالطة مع التميز والتمسك بالدين وإظهاره وتحمل الأذى في سبيل ذلك، ومواجهة مكايد أعداء الإسلام، والسعي في إحيائه في نفوس الخاصة والعامة، والذب عن أعراض العلماء الصادقين المجاهدين، والدعاة المخلصين سبيل آخر، له سلفه وعمل به أيمة كبار، ومعه أدلته، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
واعلم، بارك الله فيك، أن لشيخنا التليدي مرحلتين في حياته:
الأولى: عندما كان مع شيخه أحمد بن الصديق، وبعد وفاته إلى وفاة الشريف محمد الزمزمي سنة 1407هـ.
الثانية: منذ تلك السنة وإلى وفاته، رحمه الله.
فأما المرحلة الأولى؛ فقد كان شديد التحمس لشيخه أبي الفيض أحمد، شديد التأثر بعقيدته وفكره. ولذلك فقد ورث معاركه العلمية والسياسية .
وهذه المرحلة كما أن الشيخ تركها ورأى قلة جدواها، ولمس ما تجنيه على الدعوة الإسلامية من كوارث في وقت عمت فيه العلمانية وغلب على الناس الانسلاخ من الدين، فإنه أيضا تراجع عن كثير من أخطاء شيخه وغلطاته وحدته ضد مخالفيه. وإن كثيرا من الناس إذا قرأوا كتب الشيخ الأولى أخذوا عنه فكرة غير التي سيأخذونها إذا قرأوا كتبه التالية.
وقد لمست هذا بنفسي، ودافعت عن عرض الشيخ، رحمه الله، في الكثير من المجالس، ونشرت فضله وبينت تمسكه بالسنة ودفاعه عنها، وعذره فيما أخطأ فيه لجميل قصده. وأن أخطاءه – ولكل عالم أخطاء – مغمورة في بحر فضله، وأنه معدود من أهل السنة والأثر.
ويجب ألا نغطي الشمس بغربال، فإن المخالفين للشيخ يتهمونه بالتشيع والغلو في التصوف.
وجوابنا عن ذلك: أنها كانت مرحلة في حياة الشيخ إبان فورة شبابه لما التقى بأبي الفيض أحمد بن الصديق وتأثر به، لكنه رجع عن ذلك.
والدليل عليه: أنه كتب يرد على الرافضة في العديد من الكتب، وأوضح عقيدته في الصحابة الكرام والرد القوي على من نال منهم في كتابه “فضائل الصحابة”.
بل له كلام صريح في الترضي والترحم حتى على البغاة على الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، كما في بعض حواشي “تهذيب الشفا” حيث ذكر عمرو بن العاص وترضى عنه ورد على الشيعة.
نعم؛ في شيخنا تشيع خفيف من جنس تشيع جماعة من خيار المحدثين أهل السنن والآثار، كعبد الرزاق، والنسائي والحاكم والبيهقي والدارقطني. وهو تشيع لا يفضي لسب ولا شتم، واختياره هو السكوت عن معاوية، فلا ينال منه، ولا يترضى عنه.
أما الغلو في التصوف؛ فكلام الشيخ في جميع كتبه الأخيرة يخالفه ويرد على الغلاة، وتصوفه من جنس تصوف جماعة من خيار المحدثين كأبي إسماعيل الأنصاري ومحمد بن طاهر المقدسي وأبي الوقت السجزي وسعد الزنجاني، وغيرهم. ولا يعني هذا لا موافقتي ولا مخالفتي له، فقد بينت مذهبي في ذلك في بعض كتبي بحمد الله.
وقد ترك الشيخ النيل من علماء كبار كان لهم قدم في الإسلام، مثل الحافظ أبي العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى، فإنه ذكره في “المبشرون بالجنة” وترحم عليه، خلافا لما كان عليه شيخه ولما كتبه عنه في كتبه الأولى.
فماذا بقي بعد هذا؟، دفاعه ومحبته لشيخه؟. فهذا مما يمدح عليه، لأنه وفاء وإخلاص لشخص هداه الله به إلى الصراط المستقيم، وفتح عينيه به على أفضل العلماء، بل جعله به في مصاف كبار علماء العالم الإسلامي، فلو عقه لكان مثلمة له، لكنه يترحم عليه ويستغفر له ويبين مخالفته له، كما في مواطن من كتبه هذبها وحذف منها ما لا يليق، أو علق عليها بما يبين الصحيح.
وكم كنت أسر عندما أزور مدرسة الشيخ فأجد على الجدران كلمات مأثورة لشيخه، فليت التلاميذ يتعلمون الوفاء لشيوخهم والإخلاص لمن كانوا سببا لهدايتهم وإرشادهم. وأنا أسأل الله تعالى ألا يراني عاقا لشيخ انتفعت به واستفدت منه. فقد تربيت على الوفاء والإخلاص، و”من علمك حرفا صرت له عبدا”. وقد قال تعالى: {وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان}،
وبذلك يتبين أن جميع كتب شيخنا التليدي في المرحلة الثانية طيبة مباركة، تنضح بالدعوة للسنة والتوحيد، وجمع المسلمين عليها، مع البعد عن الخرافات والأوهام التي تنشأ عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
هذا وقد صنف الشيخ العديد من الكتب في الحديث، والفقه، والتفسير، والتصوف، والسيرة، من بينها:
“اعرف نبيك”: وهو كتاب جمع فيه صحيح السيرة النبوية العطرة مع التحرّي في نقل الأحاديث وعزوها والحكم عليها، ويتضمَّن الكتاب أيضاً غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وبيان الأماكن التي وقعت فيها كل غزوة. و ” اليواقيت والجواهر بمعرفة رواة الصحابة المشاهير”: جمع فيه مَنْ هو مشهور من الصَّحابة رضي الله عنهم، متداول الذكر في كتب السنة وأمهاتها المشهورة ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر في قصة مشهورة. “الفوائد الجلائل”: في تخريج أحاديث السيرة والشمائل الواقعة في كتاب شرح همزة البوصيري للعلاَّمة الفقيه أحمد بن عجيبة. “بداية الوصول بلب صحيح الأمهات والأصول”: وهي موسوعة تشتمل على سلسلة من الحديث النبوي الصحيح، مع شرح موجز عقب كل حديث، وضعه الشيخ تذكرة لأهل العلم وإفادة للقاصرين، وهي أحاديث منتقاة من الأمهات والأصول المشهورة.
ومن مؤلفاته أيضاً: كتاب “المرأة المتبرجة وأثرها السيّئ في الأمَّة”، وكتاب “إتحاف أهل الوفا بتهذيب كتاب الشفا لعياض”، وكتاب “المبشرون بالجنّة”، وكتاب “طريق الجنة”، وكتاب “الأربعون حديثاً في الخوف والرّجاء”، وكتاب “كشف الكربة بتخريج أحاديث شرح البردة”، وكتاب “مع السابقين إلى الجنة بلا عتاب ولا عقاب”، وكتاب “فكرة وحدة الأديان”.
كان شيخنا، رحمه الله، آخذا بالجد في دينه، عابدا زاهدا ذاكرا، تصدر لنفع العباد، فدرس على يديه عدد كبير من الطلبة، منهم من أصبح من العلماء المشار إليهم بالبنان كأبي الطيب مولود السريري، وغيره كثير. ولو قلت إن أغلب من تصدر للتدريس وعرف بالعلم الشرعي في شمال المغرب قد درس عليه لما بالغت.
وكان الشيخ في فقهه أثريا لا يتبع أي مذهب، بل يرى أن المذاهب بدعة حدثت بعد القرون المفضلة، وصنف رسالة في ما سماه (الفقه النبوي) سماها “منهاج الجنة في فقه السنة”، وقد صنفها لما رأى “الدرر البهية” للشوكاني قد أهملت كثيرا من الفروع التي تدخل في شرطها. غير أنه مع الأسف اكتفى بالعبادات فقط، ولم يكمل أبواب الفقه، وشرحها بمجلد سماه “إتمام المنة” وكل ذلك مطبوع.
هذا وقد كان بيني وبين الشيخ علاقة وطيدة، ومراسلات عديدة، أسأله ويجيبني، وكنت كلما زرت طنجة أحرص على زيارته، فيترك درسه ويتفرغ لي ولمن معي. وسردت عليه المنظومة البيقونية، فقال لي إنه أخذها عن جدي، رحمه الله.
ولما فرج الله عني من محنتي شد الرحال فورا صحبة عدد من أبنائه وأصحابه وزارني مهنئا.
وبالجملة فقد كان من البقية الباقية لعلماء المغرب الذين يذكروننا بالجيل الماضي. رحمه الله رحمة واسعة.
هذا وقد ابتلي بتشيع بعض تلاميذه وتحولهم لمذهب الإمامية، مما جعله يخص قسطا من وقته للتصدي للرافضة والرد عليهم. وصنف في ذلك ثلاث مصنفات هامة، تدخل في نصرة منهج آل البيت، وهي:
1. الأنوار الباهرة في فضائل آل البيت النبوي والذرية الطاهرة.
2. فضائل الصحابة والدفاع عن كرامتهم وبيان خطر مبغضيهم والطاعنين فيهم.
3. أهل السنة والشيعة بين الاعتدال والغلو.
توفي ظهر يوم السبت 12 ذو القعدة 1438هـ. بمدينة طنجة بعد معاناته مع المرض في آونته الأخيرة؛ صلي عليه يوم الأحد عقب صلاة الظهر في المسجد الأعظم وشيع في جنازة مهيبة حضرها الآلاف من العلماء والطلبة والمحبين وعموم الناس من مدن عدة، حيث دفن هناك بجوار مقبرة مرشان.
وخلفه في القيام على المعهد ابنه البار أخونا الفاضل الشيخ محمد بن عبد الله التليدي، حفظه الله ووفقه.
وقد ترجم شيخنا لنفسه فى كتاب سماه “ذكريات من حياتي” صدر عن دار القلم بدمشق سنة 1425هجرية وترجم له حسين الشبوكي فى كتاب سماه “عبدالله التليدي العلامة المربي والمحدث الأثري” صدر أيضا عن دار القلم بدمشق سنة 1425هـ. وعليه ملاحظات، ولذلك ناقشته بكتاب مطبوع سميته “الرد على ترجمة شيخنا التليدي للحسين الشبوكي”.
وبعد، فأنا لا أعلم أحدا من تلاميذ الصديقيين كان له اشتغال بكتب الزيدية، ومؤلفات آل البيت التي اختصوا بها. بل كلهم كغيرهم من أهل السنة يشتغلون بكتب السنة، ومنها يأخذون فقههم ودينهم. والله الموفق.

